الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **
* تعريف التطير: في اللغة: مصدر تطير، وأصله مأخوذ من الطير؛ لأن العرب يتشاءمون أويتفاءلون بالطيور على الطريقة المعروفة عندهم بزجر الطير، ثم ينظر: هل يذهب يمينًا أوشمالًا أوما أشبه ذلك، فإن ذهب إلى الجهة التي فيها التيامن؛ أقدم، أو فيها التشاؤم؛ أحجم. أما في الاصطلاح؛ فهي التشاؤم بمرئي أو مسموع، وهذا من الأمور النادرة؛ لأن الغالب أن اللغة أوسع من الاصطلاح؛ لأن الاصطلاح يدخل على الألفاظ قيودًا تخصصها، مثل الصلاة لغة: الدعاء، وفي الاصطلاح أخص من الدعاء، وكذلك الزكاة وغيرها. وإن شئت؛ فقل التطير: هو التشاؤم بمرئي، أو مسموع، أو معلوم. بمرئي مثل: لورأى طيرًا فتشاءم لكونه موحشًا. أو مسموع مثل: من هم بأمر فسمع أحدًا يقول لآخر: يا خسران، أو يا خائب؛ فيتشاءم. أو معلوم؛ كالتشاؤم ببعض الأيام أو بعض الشهور أوبعض السنوات؛ فهذه لا تُرى ولا تسمع. واعلم أن التطير ينافي التوحيد، ووجه منافاته له من وجهين: الأول: أن المتطير قطع توكله على الله واعتمد على غير الله. الثاني: أنه تعلق بأمر لا حقيقة له، بل هووهم وتخييل؛ فأي رابطة بين هذا الأمر، وبين ما يحل له، وهذا لا شك أنه يخل بالتوحيد؛ لأن التوحيـد عبادة وقول الله تعالى: واستعانة، قال تعالى: فالطيرة محرمة، وهي منافية للتوحيد كما سبق، والمتطير لا يخلو من حالين: الأول: أن يحجم ويستجيب لهذه الطيرة ويدع العمل، وهذا من أعظم التطير والتشاؤم. الثاني: أن يمضي لكن في قلق وهم وغم يخشى من تأثير هذا المتطير به، وهذا أوهن. وكلا الأمرين نقص في التوحيد وضرر على العبيد، بل انطلق إلى ما تريد بانشراح صدر وتيسير واعتماد على الله ـ عز وجل ـ ولا تسيء الظن بالله ـ عز وجل ـ. * * * وقد ذكر المؤلف رحمه الله في هذا الباب آيتين: * الآية الأولى قوله تعالى: هذه الآية نزلت في قوم موسى كما حكى الله عنهم في قوله: وقوله: قوله: وقوله: (طائر) مبتدأ، و(عند الله) خبر، والمعنى: أن ما يصيبهم من الجدب والقحط ليس من موسى وقومه، ولكنه من الله؛ فهوالذي قدره ولا علاقة لموسى وقومه به، بل إن الأمر يقتضي أن موسى وقومه سبب للبركة والخير، ولكن هؤلاء ـ والعياذ بالله ـ يلبسون على العوام ويوهمون الناس خلاف الواقع. قوله: * الآية الثانية قوله تعالى: أي: قال الذين أرسلوا إلى القرية في قوله تعالى: فقالوا ذلك ردًا على قوله أهل القرية: ولا منافاة بين هذه الآية والتي ذكرها المؤلف قبلها؛ لأن الأولى تدل على أن المقدر لهذا الشيء هوالله، والثانية تبين سببه، وهوأنه منهم؛ فهم في الحقيقة طائرهم معهم (أي الشؤم) الحاصل عليهم معهم ملازم لهم؛ لأن أعمالهم تستلزمه؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: كما قال تعالى: ويُستفاد من الآيتين المذكورتين في الباب: أن التطير كان معروفًا من قبل العرب وفي غير العرب؛ لأن الأولى في فرعون وقومه، والثانية في أصحاب القرية. وقوله: وقوله: وقوله: {مسرفون}. أي: متجاوزن للحد الذي يجب أن تكونوا عليه. * * * قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (لا عدوى). لا نافية للجنس، ونفي الجنس أعم من نفي الواحد والاثنين والثلاثة؛ لأنه نفي للجنس كله، فنفي الرسول صلى الله عليه وسلم العدوى كلها والعدوى: انتقال المرض من المريض إلى الصحيح، وكما يكون في الأمراض الحسية يكون أيضًا في الأمراض المعنوية الخلقية، ولهذا أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن جليس السوء كنافخ الكير؛ إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه رائحة كريهة [البخاري: كتاب البيوع/ باب في العطار وبيع المسك، ومسلم: كتاب البر والصلة/باب استحباب مجالسة الصالحين.]. فقوله: (لا عدوى) يشمل الحسية والمعنوية، وإن كانت في الحسية أظهر. قوله: (ولا طيرة). اسم مصدر تطير؛ لأن المصدر منه تطير، مثل الخيرة اسم مصدر اختار، قال تعالى: واسم المصدر يوافق المصدر في المعنى، ولذلك تقول كلمته كلامًا بمعنى كلمته تكليمًا، وسلمت عليه سلامًا بمعنى سلمت عليه تسليمًا. لكن لما كان يخالف المصدر في البناء سموه اسم مصدر، والطيرة تقدم أنها هي التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم [تقدم (ص 559)]. قوله: (ولا هامة). الهامة؛ بتخفيف الميم فسرت بتفسيرين: الأول: أنها طير معروف يشبه البومة، أوهي البومة، تزعم العرب أنه إذا قُتل القتيل؛ صارت عظامة هامة تطير وتصرخ حتى يؤخذ بثأره، وربما اعتقد بعضهم أنها روحه. التفسير الثاني: أن بعض العرب يقولون: الهامة هي الطير المعروف، لكنهم يتشاءمون بها، فإذا وقعت على بيت أحدهم ونعقت؛ قالوا: إنها تنعق به ليموت، ويعتقدون أن هذا دليل قرب أجله، وهذا كله ـ بلا شك ـ عقيدة باطلة. قوله: (ولا صفر). قيل: إنه شهر صفر، كانت العرب يتشاءمون به ولاسيما في النكاح. وقيل: إنه داء في البطن يصيب الإبل وينتقل من بعير إلى آخر، وعلى هذا؛ فيكون عطفه على العدوى من باب عطف الخاص على العام. وقيل: إنه نهي عن النسيئة، وكانوا في الجاهلية ينسئون، فإذا أرادوا القاتل في شهر المحرم استحلوه، وأخروا الحرمة إلى شهر صفر، وهذه النسيئة التي ذكرها الله بقوله تعالى: وهذا النفي في هذه الأمور الأربعة ليس نفيًا للوجود؛ لأنها موجودة، ولكنه نفي للتأثير؛ فالمؤثر هو الله، فما كان منها سببًا معلومًا؛ فهو سبب صحيح، وما كان منها سببًا موهومًا؛ فهو سبب باطل، ويكون نفيًا لتأثيره بنفسه إن كان صحيحًا، ولكونه سببًا إن كان باطلًا. فقوله: (لا عدوى): العدوى موجودة، ويدل لوجودها قوله صلى الله عليه وسلم: وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: والجذام مرض خبيث معد بسرعة ويتلف صاحبه؛ حتى قيل: إنه الطاعون؛ فالأمر بالفرار من المجذوم لكي لا تقع العدوى منه إليك، وفيه إثبات لتأثير العدوى، لكن تأثيرها ليس أمرًا حتميًا، بحيث تكون علة فاعله، وأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالفرار، وأن لا يورد ممرض على مصح من باب تجنب الأسباب لا من باب تأثير الأسباب نفسها؛ فالأسباب لا تؤثر بنفسها، لكن ينبغي لنا أن نتجنب الأسباب التي تكون سببًا للبلاء؛ لقوله تعالى: فإن قيل: إن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما قال: فعلى الإنسان أن يعتمد على الله، ويتوكل عليه، وقد روي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جاءه رجل مجذوم، فأخذ بيده وقال له: (كل) يعني من الطعام الذي كان يأمل منه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ) [أبو داود: كتاب الطب/باب في الطيرة، والترمذي: كتاب الأطعمة/باب في الأكل مع المجذوم، وابن ماجة: كتاب الطب/ باب الجذام، والحاكم (4/139)، وصححه ووافقه الذهبي.]؛ لقوة توكله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهذا التوكل مقاوم لهذا السبب المعدي. وهذا الجمع الذي أشرنا إليه هو أحسن ما قيل في الجمع بين الأحاديث، وادعى بعضهم النسخ؛ فمنهم من قال: عن الناسخ قوله: (لا عدوى)، والمنسوخ قوله: (فر من المجذوم)، و(ولا يورد ممرض على مصح)، وبعضهم عكس، والصحيح أنه لا نسخ؛ لأن من شروط النسخ تعذر الجمع، وإذا أمكن الجمع وجب الرجوع إليه؛ لأن في الجمع إعمال الدليلين، وفي النسخ إبطال أحدهما، وإعمالهما أولى من إبطال أحدهما؛ لأننا اعتبرناهما وجعلناهما حجة، وأيضًا الواقع يشهد أنه لا نسخ. وقوله: (ولا صفر). فيه ثلاثة أقوال سبقت، وبيان الراجح منها. والأزمنة لا دخل لها في التأثير وفي تقدير الله ـ عز وجل ـ فصفر كغيره من الأزمنة يقدر فيه الخير والشر، وبعض الناس إذا انتهى من شيء في صفر أرخ ذلك وقال: انتهى في صفر الخير، وهذا من باب مداواة البدعة ببدعة، والجهل بالجهل؛ فهو ليس شهر خير ولا شهر شر. أما شهر رمضان، وقولنا: إنه شهر خير؛ فالمراد بالخير العبادة، ولا شك أنه شهر خير، وقولهم: رجب المعظم؛ بناءً على أنه من الأشهر الحرم. ولهذا أنكر بعض السلف على من إذا سمع البومة تنعق قال؛ خيرًا إن شاء الله؛ فلا يُقال: خير ولا شر، بل هي تنعق كبقية الطيور. فهذه الأربعة التي نفاها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تُبين وجوب التوكل على الله وصدق العزيمة، ولا يضعف المسلم أمام هذه الأشياء؛ لأن الإنسان لا يخلو من حالين: إما أن يستجيب لها بأن يقدم أويحجم أوما أشبه ذلك؛ فيكون حينئذ قد علق أفعاله بما لا حقيقة له ولا أصل له، وهو نوع من الشرك. وإما أن لا يستجيب بأن يكون عنده نوع من التوكل ويقدم ولا يبالي، لكن يبقى في نفسه نوع من الهم أو الغم، وهذا وإن كان أهون من الأول، لكن يجب ألا يستجيب لداعي هذه الأشياء التي نفاها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مطلقًا، وأن يكون معتمدًا على الله ـ عز وجل ـ. وبعض الناس قد يفتح المصحف لطلب التفاؤل، فإذا نظر ذكر النار تشاءم، وإذا نظر ذكر الجنة قال: هذا فأل طيب؛ فهذا مثل عمل الجاهلية الذين يستقسمون بالأزلام. فالحاصل أننا نقول: لا تجعل على بالك مثل هذه الأمور إطلاقًا؛ فالأسباب المعلومة الظاهرة تقي أسباب الشر، وأما الأسباب الموهومة التي لم يجعلها الشرع سببًا بل نفاها؛ فلا يجوز لك أن تتعلق بها، بل احمد الله على العافية، وقل: ربنا عليك توكلنا. قوله: (لا نوء). واحد الأنواء، والأنواء: هي منازل القمر، وهي ثمان وعشرون منزلة، كل منزلة لها نجم تدوم بمدار السنة. وهذه النجوم بعضها يسمى النجوم الشمالية، وهي لأيام الصيف، وبعضها يسمى النجوم الجنوبية، وهي لأيام الشتاء، وأجرى الله العادة أن المطر في وسط الجزيرة العربية يكون أيام الشتاء، أما أيام الصيف؛ فلا مطر. فالعرب كانوا يتشاءمون بالأنواء، ويتفاءلون بها؛ فبعض النجوم يقولون: هذا نجم نحس لا خير فيه، وبعضها بالعكس يتفاءلون به فيقولون: هذا نجم سعود وخير، ولهذا إذا أُمطروا قالوا: مُطرنا بنوء كذا، ولا يقولون: مُطرنا بفضل الله ورحمته، ولا شك أن هذا غاية الجهل. ألسنا أدركنا هذا النوء بعينه في سنة يكون فيه مطر وفي سنة أخرى لا يكون فيه مطر؟ ونجد السنوات تمر بدون مطر مع وجود النجوم الموسمية التي كانت كثيرًا ما يكون في زمنها الأمطار. فالنوء لا تأثير له؛ فقولنا: طلع هذا النجم، كقولنا: طلعت الشمس؛ فليس له إلا طلوع وغروب، والنوء وقت تقدير، وهو يدل على دخول الفصول فقط. وفي عصرنا الحاضر يعلق المطر بالضغط الجوي والمنخفض الجوي، وهذا وإن كان قد يكون سببًا حقيقيًا، ولكن لا يفتح هذا الباب للناس، بل الواجب أن يُقال: هذا من رحمة الله، هذا من فضله ونعمه، قال تعالى: فتعليق المطر بالمنخفضات الجوية من الأمور الجاهلية التي تصرف الإنسان ولهما عن أنس؛ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: عن تعلقه بربه. فذهبت أنواء الجاهلية، وجاءت المنخفضات الجوية، وما أشبه ذلك من الأقوال التي تصرف الإنسان عن ربه ـ سبحانه وتعالى ـ. نعم، المنخفضات الجوية قد تكون سببًا لنزول المطر، لكن ليست هي المؤثر بنفسها؛ فتنبه. قوله: (ولا غول). جمع غولة أوغولة، ونحن نسميها باللغة العامية: (الهولة)؛ لأنها تهول الإنسان. والعرب كانوا إذا سافروا أوذهبوا يمينًا وشمالًا تلونت لهم الشياطين بألوان مفزعة مخيفة، فتدخل في قلوبهم الرعب والخوف، فتجدهم يكتئبون ويستحسرون عن الذهاب إلى هذا الوجه الذي أرادوا، وهذا لا شك أنه يضعف التوكل على الله، والشيطان حريص على إدخال القلق والحزن على الإنسان بقدر ما يستطيع، قال تعالى: وهذا الذي نفاه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو تأثيرها؛ وليس المقصود بالنفي نفي الوجود، وأكثر ما يبتلى الإنسان بهذه الأمور إذا كان قلبه معلقًا بها، أما إن كان معتمدًا على الله غير مبال بها؛ فلا تضره ولا تمنعه عن جهة قصدة. * * *
|